تغذية

 “قرابة الملح” لعبد الرحيم العطري… يفكك الهندسة الاجتماعية للطعام

بعد نفاذ الطبعة الأولى من “قرابة الملح: الهندسة الاجتماعية للطعام”، الصادر عن دار المدارس للنشر والتوزيع، وبدعم من وزارة الثقافة المغربية، ستصدر قريبا طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من هذا الكتاب الذي جاء في 351 صفحة من القطع الكبير، وبغلاف دال يحيل على اقتسام الطعام ذات “موسم” قروي.

يتوزع كتاب قرابة الملح الذي آثر العطري إهداءه إلى روح المرحومة فاطمة المرنيسي، على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، وملاحق غنية بالمتون. ففي الفصل الأول الموسوم بـ”الطعام أُفُقاً للتفكير”، ناقش الباحث محدودية الدرس العلمي للطعام و الإطعام، مُوضحًا ظروف الانهمام به في إطار الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ والأدب، ومُتوقفًا عند الانتقال من الطبيعة إلى المائدة، لينعطف في نهاية الفصل نحو “نحن” والطعام، ليبرز فيه علاقة المتن العربي الإسلامي بالمطبخ والطبيخ.

أما الفصل الثاني المفتوح على مفاعيل الطعام والإطعام، فقد استعاد فيه الباحث التراث الأنثروبولوجي لمارسيل موس في مستوى الهبة وبناء الوجاهة الاجتماعية، عن طريق الإطعام، لينتقل إلى مدارات هذا الفعل ورهاناته في المجتمع المغربي واحتمالات التمايز الغذائي. فيما الفصل الثالث خصص لمسارات الترميق الغذائي، عبر التفاوض مع الطبيعة والتناص الغذائي.

وفي الفصل الرابع من الكتاب سيتطرق الباحث للطعام وجواراته، منفتحا على “النعمة” والقداسة، وجَنْسَنَةُ الطعام، والخبز و الثورة، ليبرز العلائق القائمة بين الطعام وهذه الجوارات، ويأخذنا بعدئذ إلى الفصل الخامس الذي اختار له من العناوين: من “القَعِيدَة” إلى “الفَرْدَنَةِ”، حيث تناول فيه بالدرس والتحليل: العادات الغذائية واشتغال العادة، فضلا عن التغير الغذائي و”فَرْدَنَةُ” الطعام

أما خاتمة العمل المسماة بأحواز القراءة فقد جعلها الباحث دفاعا عن أطروحته المتعلقة المجتمع التراتبي، ليختم بملاحق ثرية جمع فيها معجما للطعام، وأمثالا شعبية مغربية عن الطعام والإطعام، بالإضافة أقوال في الجوع والطعام، وأدوات ومواعين الطبيخ وأطعمة من المطبخ الموحدي، ونماذج من قصائد ونوازل الأطعمة والأشربة.

من المؤكد أن القرابة في أي مجتمع من المجتمعات، تتأسس على “لقاء الدم”، فعن طريق الزواج و ما يستتبعه من مصاهرة و بنوة و خؤولة و عمومة تبنى القرابة و تتواصل إلزاماتها و “محرماتها” إلى الدائرين في فلكها، لكن قرابة الدم ليست الوحيدة في إنتاج الرابط الاجتماعي، فهناك قرابة الحليب التي تكون مؤثرة وفاعلة بسبب الإرضاع و ما ينجم عنه من “أخوة” و “بنوة”، ويمكن أن نضيف إلى “الدم” و”الحليب”، “قرابة الملح” أو “الممالحة” التي تتأسس بفعل “مشاركة الطعام”.

و لهذا يَنْدُرُ أن نجد فعلا اجتماعيا لا يستند في إنتاجه على الأكل و تبادل الأكل. بل إن المواثيق والعقود توثق بالمقدس وتعزز و توطد أكثر بالطعام، فثمة خوف دائم من سوء عاقبة نكث العهد المؤسس على مشاركة الملح. فالطعام لا ينحصر في حدود المعطى البيولوجي أو التدبير الوظيفي لما يحتاجه الجسد، وإنما هو نتاج اجتماعي و ثقافي يحدد طبيعة المجتمع و تشكيلاته الاجتماعية وصراعاته وتضامناته وتنافساته، إن الطعام بهذا المستوى، هو نافذة لقراءة الفعل و التفاعل الاجتماعي، وتبرير الممارسات المجتمعية.

لهذا، يسعى هذا الكتاب، لأن يساهم، ولو في حدود دنيا، في توسيع دائرة الانشغال بالطعام كثقافة دالة نقرأ من خلالها المجتمع في ثباته و تغيره، مدافعاً بالأساس عن رُمُوزِيَةِ الأكل و تراتبيته، ومنتهياً في الختام إلى “مشروع توصيف” ممكن للمجتمع المغربي. فالطعام هو جسر عبور ممكن إلى الأبنية الخفية للمجتمع، ومنه نفكك كثيرا من الشفرات الثقافية، ونتتبع مختلف التلاقحات و التواصلات التي تختزنها وجبات وأدوات الممارسة المطبخية.

يذكر أخيرا أن الباحث المغربي عبد الرحيم العطري أستاذ السوسيولوجيا بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، صدرت له مجموعة من الأعمال الفردية والجماعية، من بينها: “سوسيولوجيا السلطة السياسية: آليات إنتاج نفوذ الأعيان”، “بركة الأولياء: بحث في المقدس الضرائحي”، “مدرسة القلق الفكري: بورتريهات السوسيولوجيا المغربية”، “سوسيولوجيا الأعيان: آليات إنتاج الوجاهة الاجتماعية”، “الرحامنة: القبيلة بين الزاوية والمخزن”، تحولات المغرب القروي”، الحركات الاحتجاجية بالمغرب”، “صناعة النخبة بالمغرب”، سوسيولوجيا الشباب المغربي”، دفاعا عن السوسيولوجيا”، “الليل العاري”، “القارة السابعة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى